هذه الآية من الآيات التي أنزلها الله تعالى تسلية لنبيِّه صلى الله عليه وسلم؛ لما كان يُعاب به من كفار قريش وغيرهم، واختلف أئمة التفسير فيمن نزلت على خمسة أقوال، ولعل أقربها إلى الصواب ما ذكره ابن كثير رحمه الله قال: «قال البزار: حدَّثنا زياد بن يحيى الحساني، حدثنا ابن أبي عدي، عن داود، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: « قدم كعب بن الأشرف مكة فقالت له قريش: أنت سيدهم ألا ترى إلى هذا الصَّنْبر المُنْبَتر من قومه يَزعم أنَّه خير منَّا، ونحن أهل الحجيج، وأهل السَّدانة وأهل السقاية؟ فقال: أنتم خير منه؛ قال: فنزلت: ﴿إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأبْتَرُ﴾» هكذا رواه البزار وهو إسناد صحيح» انتهى.
والحديث أخرجه أيضا النسائي في السنن الكبرى (11643)، وابن حبان في صحيحه (6572)، وغيرهما.
والصَّنبر وفي رواية الصُّنيبير بالتصغير، والصنبور الرجل الفَرْد الضعيف الذليلٌ الذي لا أَهل له ولا عَقِب ولا ناصر.
والأبتر من الرجال: الذي لا وَلَد له، ومن الدَّواب من لا ذنَب له، وكل أمر انقطع من الخير أثره فهو أبتر، والبتر القطع، بترت الشيء بترا قطعته قبل الإتمام، والانبتار الانقطاع، والباتر السيف القاطع، والأبتر المقطوع الذَّنَب.
وهذا الحكم الذي حكم الله به من القطع لا يختص بمبغض واحد، بل هو شامل لكلِّ مَن أبغض النبيَّ صلى الله عليه وسلم وسبَّه وانتقصه، والعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، قال ابن جرير في تفسيره بعد ذكر بعض الأقوال في الآية: «وأولى الأقوال في ذلك عندي بالصواب أن يُقال: إنَّ الله تعالى ذكرُه أخبر أنَّ مبغض رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الأقلُّ الأذلُّ المنقطع عقبه، فذلك صفةُ كلِّ مَن أبغضه من الناس، وإن كانت الآية نزلت في شخص بعينه» اهـ.
ونبيُّنا محمد صلى الله عليه وسلم بعيدٌ كلَّ البُعد عما ادَّعاه هؤلاء المبطلون سواء المتقدِّمون أم المتأخرون؛ لأنَّ الله تعالى حفظ مكانته وأعلى ذكرَه، وأبطل ما رُمي به من النقص فبطلت بذلك مزاعم الكفار في نبيه صلى الله عليه وسلم، وذكر أنَّ شانئه وعائبه ومبغضه هو المستحق للبتر والقطع، فيقطع خيره وذكره في الدنيا والآخرة، فإن ذُكر لم يُذكر إلا باللَّعن والغضب والمقت، فهو المنفرد بالبتر المخصوص به، لا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجميع أولاد المؤمنين أولاده، وذكره مرفوع على المنائر والمنابر، ومسرود على لسان كل عالم وذاكر إلى آخر الدهر، يُبدأ بذكر الله تعالى، ويُثنَّى بذكره صلى الله عليه وسلم، وله في الآخرة ما لا يدخل تحت الوصف صلى الله عليه وسلم.
ومما يدخل ضمناً في هذه الآية كلُّ من أبغض ما جاء به من الهدى والحق والبرهان وكلُّ مَن ردَّ أخباره عليه الصلاة والسلام، بحجة مخالفتها للعقل البشري، وعدم صلاحيتها لمستجدات العصر، بل منهم من ردَّ حديث نبيِّه ووقع في البدع والضلالات التي لا تستند إلاَّ إلى آراء الرجال وأهوائهم، فهؤلاء ينقطع ذكرهم، ولا يبقى الذِّكر الجميل إلا لمن اتَّبع نبيَّه واقتفى أثره، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: « فلا يوجد من شَنَأَ الرسولَ إلاَّ بتَرَه الله حتى أهل البدع المخالفون لسنته، قيل لأبي بكر بن عياش: إنَّ بالمسجد قوما يجلسون للناس ويتكلمون بالبدعة؟ فقال: مَن جَلس للناس جلس الناس إليه، لكن أهل السنة يبقون ويبقى ذكرُهم، وأهل البدعة يموتون ويموت ذكرهم ».
وإن ذُكروا لم يذكروا إلا بمخالفة النبي صلى الله عليه وسلم والوقوع في البدع والمنكرات.
وقال شيخ الإسلام أيضاً: « وأهل البدعة شنئوا ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم فكان لهم نصيبٌ من قوله: ﴿إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأبْتَرُ﴾ فالحَذَر الحذر أيُّها الرجل من أن تكره شيئا مما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، أو تردَّه لأجل هواك، أو انتصاراً لمذهبك أو لشيخك، أو لأجل اشتغالك بالشهوات أو بالدنيا؛ فإنَّ الله لم يوجب على أحد طاعة أحد إلاَّ طاعة رسوله والأخذ بما جاء به، بحيث لو خالف العبدُ جميعَ الخلق واتَّبع الرسول ما سأله الله عن مخالفة أحد، فإن من يطيع أو يُطاع إنَّما يُطاع تبعاً للرسول، وإلاَّ لو أمر بخلاف ما أمر به الرسول ما أُطيع، فاعلم ذلك واسمَع وأطِع واتَّبع ولا تبتدِع، تكن أبترَ مردوداً عليك عملك، بل لا خير في عمل أبتر من الاتِّباع، ولا خير في عامله، والله أعلم».
نسأل الله تعالى أن يقطع كلَّ مَن أبغض نبينا صلى الله عليه وسلم فلا يُذكر، وإن ذُكر لا يُذكر إلا بالشرِّ واللعنة والمقت، ونسأله أن يوفقنا وجميع المسلمين لاتباعه والعمل بسنته ونصرته، لينصرنا الله؛ وما النصر إلاَّّ من عند الله العزيز الحكيم.
للشيخ د/ رضا بوشامة